سورة التوبة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


قلت: {براءة}: خبر عن مضمر، أي: هذه براءة و{مِنَ}: ابتدائية، متعلقة بمحذوف، أي: واصلة من الله، و{إلى الذين}: متعلقة به أيضاً، أ ومبتدأ لتخصيصها بالصفة، و{إلى الذين}: خبر.
يقول الحق جل جلاله: هذه {براءة} أي: تبرئة {من الله ورسوله} واصلة {إلى الذين عاهدتم من المشركين}، فقد تبرأ الله ورسوله من كل عهد كان بين المشركين والمسلمين، لأنهم نكثوا أولاً، إلا أناساً منهم لم ينكثوا، وهم بنو ضمرة وبنو كنانة، وسيأتي استثناؤهم. قال البيضاوي: وإنما علقت البراءة بالله وبرسوله، والمعاهدة بالمسلمين؛ للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم، وإن كانت صادرة بإذن الله واتفاق الرسول؛ فإنهما برئا منها. اهـ.
وقال ابن جزي: وإنما أسند العهد إلى المسلمين؛ لأن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لازم للمسلمين، وكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عقد العهد مع المشركين إلى آجال محدودة، فمنهم من وفّى، فأمر الله أن يتم عهده إلى مدته، ومنهم من نقص أو قارب النقض، وجعل له أجل أربعة أشهر، وبعدها لا يكون له عهد. اهـ. وإلى ذلك أشار بقوله: {فسيحوا في الأرض أربعةَ أشهرٍ} آمنين لا يتعرض لكم أحد، وبعدها لا عهد بيني وبينكم. وذكر الطبري: أنهم أسلموا كلهم في هذه المدة ولم يسح أحد. اهـ.
وهذه الأربعة الأشهر: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، لأنها نزلت في شوال، وقيل: هي عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، وعشر من الآخر، لأن التبليغ كان يوم النحر؛ لما روي أنها لَمّا نزلت أرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه راكبِاً العَضْبَاءَ ليَقْرأَهَا عَلى أهل المَوْسِم، وكان قد بعث أبا بكرٍ رضي الله عنه أميراً على الموسم، فقيل: لو بَعَثْتَ بها إِلى أَبَي بكرٍ؟ فقال: لا يُؤَدِّي عَنَّي إلا رَجُلٌ مِنِّي فَلَمَّا دَنَا عَليٌّ رضي الله عنه، سَمِعَ أَبُو بَكرٍ الرُّغاءَ، فوقف وَقَال: هذا رُغاء ناقَةِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فوقف، فلمَّا لَحِقَهُ قال: أَمير أو مَأمُورٌ؟ قال: مَأمُورٌ، فلما كان قبل الترْويَة خَطَبَ أبو بكر رضي الله عنه، وحَدَّثَهُمْ عَنْ مَنَاسِكَهِم، وقَامَ عليٌّ كرم الله وجهه يومَ النَّحر، عند جَمْرَةِ العَقَبَةِ، فقال: يا أَيُّها النّاس، إني رَسُولُ رَسولِ اللَّهِ إليكم، فقالوا: بماذا؟ فَقَرأَ عليهمْ ثلاثين أوْ أرْبعين آيةً من أول السورة، ثم قال: أمرْتُ بأربَعٍ: أَلا يَقْرب البَيْتَ بعد هذا مُشركٌ، ولا يَطُوف بالبيت عُريَانٌ، ولا يَدخُلُ الجَنَّةَ إلا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٍ، وأن يَتِمَّ كُلّ ذِي عَهْدٍ عَهْدُهُ.
ولعل قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يؤدي عني إلا رجل مني» خاص بنقض العهود، لأنه قد بعث كثيراً من الصحابة ليؤدوا عنه، وكانت عادة العرب ألاّ يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل منها. قاله البيضاوي مختصراً.
ثم قال تعالى لأهل الشرك: {واعلموا أنكم غير مُعجزي الله} أي: لا تفوتونه، وإن أمهلكم، {وأن الله مُخزي الكافرين} في القتل والأسر في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة.
الإشارة: وقد وقع التبرؤ من أهل الشرك مطلقاً، أما الشرك الجلي فقد تبرأ منه الإسلام والإيمان، وأما الشرك الخفي فقد تبرأ منه مقام الإحسان، ولا يدخل أحدٌ مقام الإحسان حتى لا يعتمد على شيء، ولا يستند إلى شيء، إلا على من بيده ملكوت كل شيء، فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب، ويرفض النظر إلى العشائر والأصحاب، حتى لا يبقى في نظره إلا الكريم الوهاب، فمن أصرَّ على شوكه الجلي أو الخفي فإن الله يمهل ولا يهمل، فلا بد أن يلحقه وباله: إما خزي في الدنيا، أو عذاب في الآخرة، كل على ما يليق به.
وقال القشيري: إنْ قَطَعَ عنهم الوصلة فقد ضَرَبَ لهم مدةً على وجه المُهْلَةِ، فأَمَّنهُم في الحَالِ؛ ليتأهبوا لتَحمُّل مقاساةِ البراءةِ فيما يستقبلونه في المآلِ. والإشارةُ فيه: أنهم إنْ أقلعوا في هذه المهلة عن الغَيِّ والضلال، وجدوا في المآل ما فقدوا من الوصال. وإنْ أبَوْا إلا التمادي في تَرْكِ الخدمة والحرمة، انقطع ما بينه وبينهم من الوصلة. اهـ. والله تعالى أعلم.


قلت: {وأذان}: مبتدأ، أو خبر، على ما تقدم في براءة، وهو فَعال بمعنى إفعال؛ كالعطاء بمعنى الإعطاء، أي: وإعلام من الله ورسوله واصل إلى الناس، ورفع رسوله؛ إما عطف على ضمير برئ، أو على محل إن واسمها، أو مبتدأ حُذف خبره، أي: ورسوله كذلك.
يقول الحق جل جلاله: {وأذانٌ من الله ورسوله} واصل إلى الناس، ويكون {يومَ الحج الأكبر} وهو يوم النحر؛ لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله، ولأن الإعلام كان فيه. ولما روي أنه عليه الصلاة والسلام وقف يوم النحر، عند الجمرات، في حجة الوداع فقال: «هذا يوم الحج الأكبر»، وقيل: يوم عرفة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «الحج عرفة» ووصف الحج بالأكبر؛ لأن العمرة تسمى الحج الأصغر.
وذلك الإعلام بأنَّ {الله بريء من المشركين ورسولُه} عليه الصلاة والسلام كذلك. قال البيضاوي؛ ولا تكرار؛ فإن قوله: {براءة من الله}: إخبار بثبوت البراءة، وهذا إخبار بوجوب الإعلام بذلك، ولذلك علقه بالناس ولم يخص بالمعاهدين. اهـ. {فإن تُبْتُم} يا معشر الكفار ورجعتم عن الشرك، {فهو} أي: الرجوع {خيرٌ لكم}، {وإن توليتم} أي: أعرضتم عن التوبة وأصررتم على الكفر {فاعلموا أنكم غيرُ معجزي الله}؛ لا تفوتونه طلباً، ولا تعجزونه هرباً في الدنيا، {وبَشّرِ الذين كفروا بعذاب أليمٍ} في الآخرة.
ولما أمر بنقض عهود الناكثين استثنى من لم ينقض فقال: {إَلا الذين عاهدتُّم} أي: لكن الذين عاهدتم {من المشركين}، وهم بنو ضمره وبنو كنانة، {ثم لم يَنقُضُوكم شيئاً} من شروط العهد، ولم ينكثوا، ولم يقتلوا منكم ولم يضروكم قط، {ولم يُظاهروا عليكم أحداً} أي: لم يعاونوا عليكم أحداً من أعدائكم، {فأتموا إليهم عهدهم إلى} تمام {مُدتهم}، وكانت بقيت لهم من عهدهم تسعة أشهر. ولا تجروهم مجرى الناكثين؛ {إن الله يحب المتقين}، وهو تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى. قاله البيضاوي.
الإشارة: من أعظم شؤم الشرك: إن الله ورسوله تبرآ من أهله مرتين: خاصة وعامة، فيجب على العبد التخلص منه خفياً أو جلياً، ويستعين على ذلك بصحبة أهل التوحيد الخاص، حتى يُخلصوه من أنواع الشرك كلها، فإن صدر منه شيء من ذلك فليبادر بالتوبة وأصر على شركه، كان ذلك هوانه وخزيه، وبالله التوفيق.


يقول الحق جل جلاله: {فإذا انسلخ الأشهر} أي: انقضى الأشهر، {الحُرم} وهي الأربعة التي امهلهم فيها، فمن قال: إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، فهي الحرم المعروفة، زاد فيها شوال، ونقص رجب، وسميت حرماً؛ تغليباً للأكثر، ومن قال: إنها ذو الحجة إلى ربيع الثاني، فسميت حرماً؛ لحرمتها ومنع القتال فيها حينئذٍ. وغلط من قال: إنها الأشهر الحرم المعلومة؛ لإخلاله بنظم الكلام ومخالفته للإجماع؛ لأنه يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم. انظر البيضاوي.
فإذا انقضت الأربعة التي أمهلتهم فيها {فاقتلوا المشركين} الناكثين {حيث وجدتموهم} من حل أو حرم، {وخُذوهم} أسارى، يقال للأسير: أخيذ، {واحصروهم}؛ واحبسوهم {واقعدوا لهم كل مرصد}؛ كل ممر وطريق؛ لئلا ينبسطوا في البلاد، {فإن تابوا} عن الشرك وآمنوا، {وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة}؛ تصديقاً لتوبتهم وإيمانهم؛ {فخلوا سبيلهم} أي؛ فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء من ذلك.
وفيه دليل على ان تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله، بل يقاتل؛ كما فعل الصديق رضي الله عنه بأهل الردة. والآية: في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أُقَاتِل النَّاس حتَّى يَقُولوا لا إله إلا الله، ويُقيموا الصَّلاة ويُؤتوا الزَّكَاةَ...» الحديث.
{أن الله غفور رحيم}، هو تعليل لعدم التعرض لمن تاب، أي: فخلوهم؛ لأن الله قد غفر لهم، ورحمهم بسبب توبتهم.
الإشارة: فإذا انقضت ايام الغفلة والبطالة التي احترقت النفس فيها، فاقتلوا النفوس والقواطع والعلائق حيث وجدتموهم، وخذوا أعداءكم من النفس والشيطان والهوى، واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد يتعرضون فيه لكم، فإن أذعنوا، وانقادوا، وألقوا السلاح، فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8